المملكة العربية السعودية هي أكبر دولة في شبه الجزيرة العربية،
حيث تحتل معظم
مساحتها الكلية، ويحدها مباشرة بحدودٍ برية وبحرية خمس دول هي: دولة الكويت،
المملكة الأردنية الهاشمية، دولة قطر، دولة الإمارات العربية المتحدة والجمهورية
اليمنية، بينما يحدها بحدودٍ برية فقط دولتان هما: جمهورية العراق وسلطنة عمان، في حين يحدها
بحدودٍ بحرية فقط خمس دول هي: الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مملكة البحرين،
جمهورية مصر العربية، جمهورية السودان وجمهورية اريتريا، إضافة إلى ذلك، فإنه
يحدها ثلاثة مناطق بحرية هي: البحر الأحمر وخليج العقبة إلى الغرب والخليج العربي
إلى الشرق.
ينقسم تاريخ المملكة العربية السعودية إلى ثلاث فترات
هي: الدول السعودية الأولى، الدول السعودية الثانية، الدول السعودية الثالثة، التي
تأسست على يد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، عندما استعاد رحمه الله مدينة
الرياض، عاصمة المملكة ، في عام 1902م، وما تلا ذلك من توحيد مختلف مناطق وأجزاء المملكة حتى إعلان توحيد
المملكة العربية السعودية بتاريخ 23 سبتمبر 1932
أصبحت المملكة العربية السعودية عضوًا
في هيئة الأمم المتحدة في 26 يونيو 1945م، بل
إنها من المؤسسين للمنظمة الدولية، كما أنها أيضا عضو في كل من الجامعة العربية،
التي أنشئت عام 1944م، ومجلس التعاون الخليجيالذي
أنشئ في مايو 1981م، ويتألف من دول الخليج الست وهي بالإضافة إلى المملكة العربية
السعودية، دولة الكويت، دولة قطر، مملكة البحرين، سلطنة عمان ودولة الإمارات
العربية المتحدة.
1. مفهوم الحدود
الدولية قبل قيام المملكة العربية السعودية
قبل قيام المملكة العربية السعودية
والدول المجاورة لها، لم يكن مفهوم الحدود الدولية كما هو معروف في القانون الدولي موجوداً، حيث
اعتاد سكان شبه الجزيرة العربية، الذين كان معظمهم من القبائل والبدو الرحل، على
التنقل والسفر بحرية داخل منطقة تشمل إلى جانب شبه الجزيرة العربية، سوريا والعراق
في الشمال، ولم يعرفوا أو يعترفوا بحدود سياسية أو قانونية تفصلهم عن بعضهم البعض، فقد
كان أمراء ومشايخ هذه القبائل يعتبرون الجبال والأودية والصحاري أو المناطق
الجبلية هي الحدود الفاصلة بين ما يمكن أن يطلق عليه سلطاتهم وسيادتهم، ولم
يكن هناك حدوداً دقيقة بين تلك الكيانات، لأن الولاية والسيادة الإقليمية
كانت تعتمد على ولاء القبائل لحكامهم، وكانت تلك
الكيانات تفتقر إلى السلطة السياسية القوية، وكانت الاضطرابات مستمرة، والموارد
الطبيعية غير كافية للحفاظ على استقرار السكان في أراضي وأقاليم محددة أو معينة في
معظم شبه الجزيرة العربية، إلى ذلك الوقت، وتحديداً إلى أوائل القرن التاسع
عشر لم تكن أبدًا الحدود الدولية في شبه الجزيرة العربية والمنطقة المجاورة لها قد
عُرفت، حيث كانت معظم أجزاء المنطقة ولمدة أربعة
قرون، تشكل جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، صحيح أن الجزء الأكبر كان في ذلك
الوقت في مختلف المحافظات عملياً مستقلاً عن العاصمة العثمانية في اسطنبول، ولكن
هذا الوضع لم يؤدي، مع ذلك، إلى نشأة الحدود الدولية بمفهومها الحديث.
يعتبر الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الحديثة طيب
الله ثراه رجل سياسةٍ وفكرٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن الصعب جداً الحديث عن الملك عبد العزيز، فالمتحدث
لا يدري من أين يبدأ والى أين سينتهي، وعن أي الجوانب سيتحدث، فالحديث له أكثر من
جانب، فشخصية الملك عبد العزيز شخصه غير عادية، حيث عرفت عبر التاريخ بالشخصية
القيادية الفذة، فقد كان بعيد النظر للأمور، يخطط لمستقبلٍ زاهر، في وقتٍ لم يكن أحد ينظر إلى ابعد من يومه وغده
القريب، كل ذلك أدى إلى تأسيس دولة واحدة كونها من شتات، هي الآن من أكبر القوى في
العالم العربي والإسلامي تضاهي نظيراتها من القوى العالمية، وأصبحت لها الكلمة
الريادية والقدرة على جمع شمل أشقائها وحسم الخلافات بينهم.
عندما استعادة الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه
الرياض في عام 1902م، أسس مركز أو بؤرة الدولة السعودية، التي
كانت الأساس والقاعدة التي انطلقت منها حملة التوحيد المباركة لتوحيد المزيد من
أراضي وأقاليم شبه الجزيرة العربية، مدعوماً بولاء السكان لأسرة آل سعود التي
تتمتع بتاريخٍ عريق وجذورٍ قوية تضربُ في عمق تاريخ المنطقة القديم والحديث، هؤلاء
السكان الذين عرفوا الاستقرار والأمن، والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
2. أهمية مركز
الدولة كنقطة انطلاق لتكوين الدولة
تجدر الإشارة إلى أن مركز الدولة أو بـؤرة الدولة هي المنطقة
التي تتكون فيها الدولة في بدايتها الأولى، حيث يشير Glassner
و De Blij إلى أن معظم الدول في أوروبا وآسيا وأفريقيا
وأمريكا اللاتينية نمت حول مركزها الذي تكون فيه الكثافة السكانية عالية نسبياً
مقارنة بغيرها من المناطق والأقاليم الأخرى في الدولة، وفي العموم فإنه يتم
التركيز على مدينة واحدة على الأقل، تتوفر فيها بعض الخصائص التي تؤهلها لان تكون
نواة الدولة ومركزها، ويوجد أنواع مختلفة من مراكز الدولة التي يمكن تصنيفها من
عدة طرق ووجوه، فبعض مراكز الدولة تكتسب أهميتها من كونها تقع في وسط الدولة،
والبعض الآخر تستمد أهميتها من عوامل سياسية أو اقتصادية أو دينية.
وفيما يتعلق بالرياض فإن لها العديد من الخصائص التي يعتبر
الجغرافيون والسياسيون أن توافرها في مركز الدولة مهم جداً، علاوة على أن هناك
العديد من العوامل التي تؤهلها لتكون مركزاً للدولة السعودية منها:
أ. أنها الموطن الأصلي لآل سعود، الذين حكموا أجزاء
كبيرة من شبه الجزيرة العربية لفتراتٍ طويلة.
ب. أنها كانت عاصمة الدولة السعودية الثانية لوقت
طويل.
ج. وجود الواحات الزراعية في جميع أنحاء الرياض،
وفرت قاعدة اقتصادية هامة للحفاظ على السكان وتوفير الأمن الغذائي والاكتفاء
الذاتي لهم.
د. تعتبر الرياض بمثابة مفترق طرق رئيس في وسط شبه
الجزيرة العربية للقوافل التي كانت تستخدم لنقل البضائع، حيث تقع الرياض في قلب
شبه الجزيرة العربية.
وما
من أدنى شك فإن توسط الرياض لشبه الجزيرة العربية يعتبر في غاية الأهمية، لان ذلك
يوفر عمق دفاعي وأمني للدولة، حيث تعتبر الصحراء الرملية الضخمة في الربع الخالي
في الجنوب و صحراء الدهناء إلى الشرق، والنفوذ الكبير إلى الشمال بمثابة حواجز
طبيعية ضد أي تهديد خارجي، في حين أن جبال الحجاز توفر حماية للمنطقة من الجهة
الغربية.
3. نشأة حدود المملكة
العربية السعودية وتطورها
يعتبر الجدار الذي أنشأه الملك عبد العزيز في عام 1902 م، أول
حدود للرياض النواة السياسية للدولة السعودية، والذي كان الهدف منه حماية عاصمة الدولة، ثم بدأت مساحة الدولة تتسع
تدريجياً حول الرياض نواة الدولة ومركزها، نتيجة لاكتساب واستعادة المزيد من
الأراضي والأقاليم التي كانت تحت سيادة الدولة السعودية الثانية من قبل الملك عبد العزيز
طيب الله ثراه، وكانت الأراضي المكتسبة حديثاً واحات ذات أهمية كبيرة بوصفها قاعدة
غذائية رئيسة للمدينة، وحجر الزاوية في التجارة مع المناطق الأخرى.
نتيجة لاكتساب المزيد من الأراضي في المناطق التي تحيط بالرياض،
فقد كانت الحدود السعودية تتغير باستمرار، فنتيجة لإعادة سيطرتها على مناطق جديدة،
تغير شكل وطول ومكان الحدود، التي ـ حتى ذلك الحين ـ لم تكن واضحة على الأرض كما
هو الحال في الحدود الدولية بمفهومها في العصر الحديث، حيث كانت مجرد مناطق حدودية
(zones) ، وكانت الحواجز
الطبيعية تفصل القبائل عن بعضها البعض، وتفصل الدولة السعودية الحديثة عن غيرها من
الكيانات السياسية الموجودة في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت، كما كانت النقاط
المرجعية الوحيدة هي مواقع القرى والواحات والوديان التي كان يدين سكانها بالولاء
إما للدولة السعودية الفتية أو لأي حاكم آخر من منافسيها في المنطقة، حيث لم تُعرف
الحدود الدولية في شبه الجزيرة العربية والمنطقة المتاخمة لها حتـى القرن التاسع
عشر، فقد ظلت المنطقة كلها غامضة لـمدة أربعة قرون وعلى
الرغم من أن العديد من الأقاليم كانت خلال فترة طويلة مستقلة عن العاصمة العثمانية
في اسطنبول، إلا أن مثل هذا الوضع لم يؤدي
إلى إقامة حدود دولية في تلك المناطق بمعناها في القانون الدولي الحديث، ولذلك
كانت الحدود، قبل قيام المملكة العربية السعودية والدول المجاورة لها، وهما الكويت
والعراق والأردن في الشمال ، وقطر ، ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان
إلى الشرق والجنوب، واليمن إلى الجنوب، تخوماَ (Frontiers)، أو مناطق حدودية لها طول ولها عرض (Zones) وليست خطوطاً محددة
بإحداثياتٍ جغرافية دقيقة (Boundary
lines).
4. الوضع القانوني لأقاليم المملكة المكتسبة
على الرغم من
أن الفتح أو الاحتلال أو الاستيلاء على الأراضي والأقاليم بالقوة (the conquest) لم
يعد مشروعاً في القانون الدولي في الوقت الحاضر، إلا أنه كان مشروعاً في السابق،
وكان اللجوء إليه أمراً مهماً كأحد وسائل
اكتساب الأراضي والأقاليم
خاصة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهذا الرأي القانوني حول مشروعية
الفتح في السابق، يؤكده القانون الدولي التقليدي من خلال الممارسات الدولية في هذا
الشأن في الفترة التي سبقت عام 1914م، حيث أثبتت تلك الممارسات أن اكتساب الأقاليم
عن طريق الفتح كان من الوسائل المشروعة في منح صفة الحيازة القانونية شريطة أن
يكون متبوعاً بالإخـضاع الكامل للأقاليم المكتسبة لسلطـة الدولة وبسط السيادة
الكاملة الدائمة وليست المؤقتة عليها، والنية والقدرة على المحافظة عليها كأقاليم
مستقلة.
لم يتم تحريم
الحرب في ذلك الوقت بعد، وكان من الممكن والمشروع اكتساب الأقاليم عن طريق استخدام
القوة، وهذا ما يؤكده اندروز Andrews حيث
يقول أن ذلك كان ظاهراً في الحقيقة التاريخية التي تؤكد أن كل مكان في العالم
تقريبا تم فتحه والسيطرة عليه من قبل دول أخرى عن طريق استخدام الق وبسبب مشروعية اكتساب الأقاليم عن طريق الفتح في السابق، فإن القوى الأوروبية قامت
بفتح واكتساب معظم أقاليم القارة الأمريكية عن طريق استخدام القوة خلال الفترة من
القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر الميلادي، كما أن القوى الأوروبية العظمى
التي ساهمت في التوسع الاستعماري في آسيا، اكتسبت عن طريق الفتح الكثير من الأراضي
التي كان سكانها لا يُعتبرون أعضاء كاملين في المجتمع المتمدن للدول التي كانوا
يسكنوها، أي أن دولهم لم تكن تعتبر من الدول المتمدنة (civilised states) والمجتمع المتمدن، ولذلك فانه يمكن لأي دولة
اكتـساب ملكيتها ولو بالقـوة، ويرى شو Shaw
أن مثـل هـذه الدول أو الكيانات السياسية قادرة من وجهة نظر القانون الدولي على أن
تكون دولاً ذات سيادة مستقلة وأنه بإمكانها أيضاً تحويل تلك السيادة إلى دول أخرى،
لذلك فان أقاليم تلك الدول لا يمكن التعامل معها على أنها أقاليم ليست مملوكة
لأحد، وهي ما تعرف في القانون الدولي بالأرض المباحة (terra nullius)
والتي يمكن امتلاكها من قبل أي دولة عن طريق الاحتلال السلمي، بل يكون التعامل
معها على أنها أقاليم ذات سيادة مستقلة، وبالتالي فإنه يمكن أن تُكتسب أقاليمها من
قبل الغير عن طريق المنح أو الفتح فقط، وذلك بسبب وجود سيادة سابقة لتلك الأقاليم،
معترفٌ بها ضمنياً من قبل الأوروبيين.
من الناحية القانونية واستناداً إلى المبدأ المعروف في القانون الدولي
بالقانون المطبق وقت وقوع الحدث أو(inter-temporal
law)
، الذي يعني أن أي عمل يجب أن تقيم مشروعيته من عدمها وقت سريان القانون المطبق عند
القيام بذلك العمل، فانه يمكن
القول بأن الفتوحات التي قادها الملك عبد العزيز لتوحيد المملكة العربية السعودية
كانت مشروعة، ففي الفترة التي تم فيها توحيد المملكة من تاريخ فتح الرياض عام
1902م، وحتى إعلان توحيد المملكة رسمياً عام 1932م، لم يكن استخدام القوة محرماً
في القانون الدولي، وكانت الحرب والفتوحات من الوسائل المشروعة لاكتساب ملكية
الأقاليم، بشرط أن يعقب ذلك بسط السيادة والنفوذ الفاعلين على كامل المناطق التي
تم فتحها وضمها، ونية الفاتح وقدرته على الحفاظ على تلك المناطق والأقاليم تحت
سيادته وسلطته.
نجد تأييد ذلك في قرار المحكمة الدائمة للعدل الدولي عند مناقشتها السيادة على جرينلاند في قضية الوضع القانوني لجرينلاند الشرقية Legal Statues of
Eastern Greenland case ، حيث أخذت في
الاعتبار اختـلاف القانون الدولي في القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، مما يدل بوضوح على
أهمية هذا المبدأ وان العبرة بالقانون الذي كان نافذاً عند وقوع حدث ما، لذلك فان
اكتساب الأقاليم عن طريق الفتح، أو استخدام القوة،
أو الحرب، كلها بمعنى واحد، يجب أن ينظر إلى مشروعيته من خلال القانون النافذ في
ذلك الوقت، عندما كانت الحرب مشروعة، وكان الفتح واستخدام القوة احد الوسائل
المشروعة لاكتساب الأقاليم، طالما انه كان متبوعاً بالقدرة على إخضاع الأقاليم
المكتسبة للسيادة والسيطرة الكاملة عليها، وكذلك النية والقدرة على الحفاظ على تلك
الأقاليم مستقلة.
يضاف إلى ذلك أن اكتساب أقاليم وأراضي المملكة العربية السعودية على يد
الملك عبد العزيز رحمه الله كان مبرراً ومؤيداً بعدة عوامل، التي تعتبر من وجهة
نظر القانون الدولي مهمة لتعزيز مشروعية اكتساب تلك الأقاليم منها:
1. استرداد ملك
الآباء والأجداد وهو ما يعرف في القانون الدولي بالحقوق التاريخية لان تلك
الأقاليم كانت جزءاً من الدولة السعودية الأولى والثانية.
2. رغبة سكان تلك
الأقاليم في وضع حد لما اعتبروه استعماراً من قبل الدولة العثمانية بعد أن ضاقوا
ذرعاً بغزو بعضهم لبعض وعجز الدولة العثمانية عن حمايتهم وتحقيق الأمن لهم، بل
وقيامها بغزوهم بدلا من حمايتهم.
3. ضعف الدولة
العثمانية، ليس في هذه الأقاليم فقط، بل في كل مكان تقريبا، الأمر الذي كان سيؤدي
إلى احتلال تلك الأقاليم من قبل بريطانيا المتواجدة في الدول المجاورة.
4. قدرة الملك
عبد العزيز على فرض سيادة الدولة وسلطتها بالطرق السلمية على كامل الأقاليم
المفتوحة.
يضاف إلى تلك العوامل، أن الفتوحات (the conquests)
كانت متبوعةً بالسيطرة الفاعلة على تلك الأقاليم، والبسط السلمي لسيادة الدولة
عليها، لقد استطاع الملك عبد العزيز بكل اقتدار أن يفرض سيادة الدولة وسلطتها
بالطرق السلمية على كامل الأقاليم المفتوحة، ولا أدل على ذلك من التغييرات الجذرية
التي أحدثها الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، في مجال أمن واستقرار وتنمية تلك
الأقاليم اقتصادياً واجتماعياً على نحوٍ لم يسبق له مثيل في المنطقة ككل، فعندما
رأى الملك عبد العزيز بثاقب بصيرته رحمه الله أن السكان يجب أن يدخلوا مرحلة جديدة
من الاستقرار بدلاً من الترحال من مكانٍ إلى آخر طلباً للماء والكلأ، أطلق مشروعه
التاريخي مشروع توطين البادية الذي يهدف إلى تنمية تلك الأقاليم تنميةً اقتصاديةً
واجتماعيةً مستدامة وإيجاد مساكن مستقرة للمواطنين، ومن حكمة الملك عبد العزيز
رحمه الله أن كل مستوطنة أو قرية تم بناءُها بالقرب من آبار المياه لأغراض الزراعة،
ولتلبية الاحتياجات اليومية من المياه للسكان ، وزودت المساكن بكامل الاحتياجات
الضرورية المتوفرة آنذاك، كما تم إنشاء المساجد، وعين لها أئمة تؤم الناس في
الصلاة، وتعلمهم أمور دينهم الذي تأسست عليه الدولة، وتحثهم على تطوير الزراعة
والفلاحة واستصلاح الأراضي للحصول على دخول ثابتة ومستمرة، بدلاً من الاعتماد على
غزو بعضهم البعض، والسلب والنهب، كوسيلة للعيش، ومن الأمور المهمة التي كان
يتعلمها السكان هي كيفية احترام الإنسانية وحقوق الآخرين وعدم التعدي عليها
والتخلي عن الغارات على بعضهم البعض والسطو على أموال وممتلكات الآخرين، لأن ذلك
محرماً وفق أوامر وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، هذه المرحلة الجديدة شكلت نقلة
نوعية في حياة المواطنين الذين وجدوا فيها الفرصة الثمينة لحياة أفضل وفضاءٍ أرحب،
وقد ساهم نجاع مشروع الملك المؤسس رحمه الله في الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي
للمواطنين، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لتوحيد بقية أجزاء المملكة وتأسيس
دولة مستقلة قوية.
وفيما يتعلق بأهمية الممارسة الفعالة والفرض السلمي الدائم وليس
المؤقت للسيادة والسلطة مع النية في الاستمرار في ذلك من وجهة نظر القانون الدولي فقد أوضحها القاضي هوبر Huber
في قضية جزيرة بالماز Island of Palmas case
، بين الولايات المتحدة واسبانيا، عندما قرر أن " استمرارية فرض السيادة على الإقليم بالطرق السلمية يمنح الحق في الملكية"، وقوله: إن " البسط المستمر والسلمي للسيادة على الأقاليم له نفس قوة الحق الشرعي"، ويؤكد أيضاً على أنه "يجب الحفاظ على الملكية بالممارسة السلمية لسيادة
الدولة وسلطتها"، وأنه يجب المحافظة على حيازة الأقاليم عن طريق البسط السلمي لسلطة الدولة، كما نجد
انه في قضية النزاع بين فرنسا والمكسيك على السيادة على جزيرة كليبرتون Clipperton Island ،
وهي جزيرة غير مأهولة بالسكان، أكد المحكم في القضية:" أن الحيازة
الفعلية وليس الاسمية شرط أساسي لمشروعية الحيازة".
وفي حكمها في قضية الوضع القانوني لجرينلاند الشرقية Legal
Statues of Eastern Greenland case
، أنشأت المحكمة الدائمة للعدل الدولي عنصرين رئيسين لفعالية حيازة الدولة
للأقاليم التي اكتسبتها، حتى تصبح الحيازة مشروعة وهما:
1 . النية
أو الرغبة في التصرف في الأقاليم التي تمت حيازتها كدولة ذات سيادة.
2 . الممارسة
الفعلية المناسبة لسلطة الدولة وبسطها على أقاليمها المكتسبة.
وتجدر الإشارة إلى
أن قاعدة "الفعالية" Effectiveness على النحو السابق ذكره قد حلت محل قاعدتي " الاكتشاف والضم
النسبي" "Discovery and
Symbolic Annexation " للأقاليم باعتبارهما
كانـتا كافيتين لإنشاء الحيازة المشروعة.
وعلى كل حال فإن المحكمة الدائمـة للعدل الدولي في قضية
الوضع القانوني لجرينلاند الشرقية Legal Statues of Eastern Greenland case عندما أنشأت العنصرين السابق ذكرهما، كان
الهدف من ذلك التأكيد على أن اكتساب الأقاليم يجب أن يكون فعالاً حتى يكون قادراً
على إعطاء الدولة حق الحيازة المشروعة، بمعنى آخر، فان اكتساب الأقاليم ليس كافياً
في ذاته لإعطاء حق الحيازة المشروعة، بل لابد أن يكون متبوعاً ببعض مظاهر السيادة
الفعالة مثل إنشاء المستوطنات والمساكن والمرافق الحكومية، وفرض النظام والأمن
العام وما إلى ذلك، إضافة إلى أهمية أن يتم الإعلان الواجب بما يفيد أن تلك
الأقاليم تمت حيازتها، وان الدولة صاحبة الحيازة لديها النية والقدرة على ممارسة
كافة أنواع السيادة عليها، كما أنه في قضية Minquiers
and Ecrehos case
بشأن النزاع الحدودي بين بريطانيا وفرنسا على السيادة على بعض الجزر والصخور في
القنال الانجليزي، وعلى الرغم من أن محكمة العدل الدولية بحثت تاريخ المنطقة
المتنازع عليها منذُ عام 1066م، إلا أن قرارها النهائي كان مبنياً بصفةٍ أساسية
على مظاهر السيادة على المنطقة المتنازع عليها، وبسط سلطات الدولة وإدارة الدولة
لمرافقها العامة وأجهزتها الحكومية الأخرى، والأنظمة والتشريعات المطبقة فيها،
وعلى هذا الأساس، فإن المحكمة وجدت أن ممارسة السيادة من قبل بريطانيا على الجزر
تفوق أي نشاطات للسلطات الفرنسية في تلك الجزر، ولذلك منحت بريطانيا حق السيادة
على الجزر بينما رفضت مُطالبة فرنسا
وفيما يتعلق
بموضوع السيادة وفعاليتها، يرى "جيننقز" "Jennings"
أن المشكلة الرئيسة تكمن في تعريف نوع ودرجة الحيازة الفعالة حتى تكون مشروعة، وكذلك ونوع وحجم
الأقاليم التي يمكن أن يقال أن السيادة تمارس عليها من وقت لآخر،
ومن الطبيعي أن لا تكون ممارسة سيادة الدولة الجديدة على كل جزء من أجزاء الدولة
وفي كل وقت بنفس المستوى والكفاءة، حيث نجد أن سيادة الدولة قد تكون كاملة في بعض
الأقاليم وناقصة في أقاليم أخرى أو قوية في بعض الأوقات وضعيفة في أوقات أخرى،
تبعاً لظروف كل إقليم، وموقعه وطبيعته الجغرافية، وما إذا كان محل نزاع محتمل مع
الدول المجاورة وغير ذلك, فالمملكة عندما تم إنشاءها كدولة جديدة ليست استثناءً من
ذلك، حيث نجد أن ممارستها لسيادتها على أقاليمها التي تكونت منها يختلف من إقليم
إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، فتكون كاملة في بؤرة أو مركز الدولة التي بدأت منه
تكوين الدولة (core area)
وهي هنا مدينة الرياض، وقد تتناقص كفاءة هذه السيادة كلما تم الابتعاد عن المركز
باتجاه أطراف الدولة، وهذا لا يؤثر مطلقاً على شرعية الدولة أو ملكية الأقاليم
التي تم ضمها، ونجد تأييد
ذلك في قضية جزيرة بالماس، التي سبقت الإشارة إليها، حيث يؤكد القاضي هوبر (Huber)
"انه لا يمكن ممارسة السيادة الفعالة في كل وقت وفي كل جزء من أقاليم
الدولة"، ومن أمثلة ممارسة السيادة الفعالة من قبل الدولة السعودية المشروع الاقتصادي
والاجتماعي لتوطين البادية الذي سبق الحديث عنه، يضاف إلى ذلك إن من أهداف المشروع
أيضاً أن تحل الدولة الحديثة بعناصرها المعروفة محل الفردية المتمثلة في البادية
الرحل الذين لا يتفق وضعهم القانوني مع متطلبات الدولة الحديثة التي تشترط أن يكون
سكانها دائمون، كما أن الممارسة الفعالة لسيادة الدولة على أقاليمها وقدرتها على
فرض سلطاتها المختلفة على رعاياها والمقيمين على أراضيها كان أيضاً ظاهراً وواضحاً
من خلال الأنظمة والقوانين التي أصدرتها الحكومة السعودية في كل مرحلة من مراحل
توحيد تلك الأقاليم حتى لا يكون هناك أي فراغ دستوري أثناء عملية التوحيد، ومن الأمثلة على ذلك أن الملك عبد العزيز طيب
الله ثراه أصدر في عام 1927م سلسلة من الأنظمة والقوانين بهدف القيام بالعديد من
الإصلاحات على مختلف المستويات وإحداث العديد من الإدارات الخدمية بهدف تقديم
الخدمات العامة للسكان.
بالإضافة
إلى ذلك فقد أصدر المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله عام 1928م مرسوماً ملكياً
يقضي بتأسيس المجلس التشريعي،
وفي عام 1932م صدر نظام آخر يقضي بتأسيس مجلس الوزراء يكون مسئولاً أمام الملك عن
إدارة شئون الدولة بصفة عامة من خلال الوزراء المعنيين والمسئولين عن وزارات
الدولة المختلفة.
يتضح من المناقشة السابقة لممارسة المملكة العربية السعودية لسيادتها على أقاليمها،
أنها مارستها بالدرجة الكافية متفقةً تماماً مع مبادئ وقواعد القانوني الدولي،
وبالقدر الذي يعطي للدولة الحق في حيازة تلك الأقاليم الحيازة المشروعة والمعتبرة
في القانون الدولي، وانه كان لديها النية والرغبة في الاحتفاظ بتلك الأقاليم
كأقاليم ذات سيادة، وأنها تصرفت في تلك الأقاليم كدولة مستقلة ذات سيادة كاملة،
ومارست السيادة الفعالة وليست الصورية على أقاليمها.
يعتبر كل ما سبقت الإشارة إليه من الإصلاحات الإدارية
والتنظيمية والتشريعية من أبرز الدلائل على ممارسة السيادة الفعالة الدائمة وليس
المؤقتة، والنية على الاستمرار في ممارستها بنفس القدر بل وبقدر أعلى ودرجة اكبر
مع مرور الوقت واكتمال بقية التشريعات والتنظيمات، ونخلص من كل ذلك إلى أن
العنصرين اللذين أنشأتهما المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية الوضع القانوني لجرينلاند الشرقية Legal Statues of Eastern Greenland case كشرطين أساسيين لمنح حق الحيازة المشروعة وهما: النية أو الرغبة في التصرف
في الأقاليم التي تمت حيازتها كدولة ذات سيادة والممارسة الفعلية المناسبة لسلطة
الدولة وبسطها على أقاليمها المكتسبة كانا متوفرين بقوة في الممارسة السعودية
للسيادة.
5. عناصر قيام
الدولة السعودية والاعتراف بها
يضاف إلى قدرة الملك عبد العزيز طيب
الله ثراه على ممارسة سيادة الدولة على النحو السابق ذكره، فإن الدولة السعودية أصبحت
في هذه المرحلة، بفضل من الله ثم بفضل حكمة الملك عبد العزيز ونظرته
الثاقبة وسياسته الرشيدة، قادرة إلى امتلاك مقومات الدولة الحديثة وهي السكان
الدائمون والأرض والسلطة المتمثلة في شخص الملك عبد العزيز وحكومته التي استطاعت
فرض السيادة وإجراء التنظيمات لمؤسسات الدولة، والقدرة على إقامة علاقات خارجية
والاتصال بالدول العظمى والتحاور معها حوار الند للند، وهذا
يتفق تماماً مع قواعد القانون الدولي كما وردت في
المادة (1) من معاهدة مونتيفديو (( Montevideo Convention لعام 1933م، الخاصة بحقوق وواجبات الدول، التي حددت عناصر
الدولة في القانون الدولي حيث نصت على أن الدولة كشخصية قانونية لا بد وأن يتوفر
فيها العناصر التالية:
1. سكان
دائمون
2. إقليم
معين يقيم عليه أولئك السكان.
3. حكومة
أو سلطة.
4. قدرة
الحكومة على إقامة علاقات خارجية (مع الدول والمنظمات الأخرى).
يضاف إلى توفر عناصر الدولة للدولة السعودية، اعتراف بريطانيا بها عام 1915م، كدولة مستقلة في نجد والإحساء والقطيف
والجبيل
والأقاليم الملحق بها، بموجب الاتفاقية السعودية ــــــــــ البريطانية التي وقعها
الطرفان آنذاك، ومن ابرز ما تم الاتفاق عليه إضافة إلى اعتراف بريطانيا بالدولة الجديدة، هو
اعترافها أيضا باستمرارية الحقوق التاريخية للملك عبد العزيز وآباءه من قبله،
وأبناءه من بعده، وهذا ما عزز موقف المملكة التفاوضي في السنوات التي تلت ذلك عند مفاوضاتها على
مسألة التسوية الحدودية مع الدول المجاورة، وقد أشارت الاتفاقية إلى أن الحدود
الشرقية للدولة السعودية لم تعين بعد، وهي الحدود مع الدول التي كانت محميات بريطانية آنذاك، وهذا أيضاً كان يصب في
مصلحة الدولة الجديدة، لان ذلك ترك الباب مفتوحاً لمناقشة الحدود الشرقية للمملكة
فيما بعد، كما أن بريطانيا وقعت مع الملك عبد العزيز "اتفاقية جدة عام 1927مـ، التي حلت محل اتفاقية 1915م، وأكدت الاعتراف بالدولة السعودية وسيادة
الملك عبد العزيز المطلقة على جميع الأقاليم التي فتحها وضمتها إلى ذلك التاريخ.
6.
مبدأ
تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية
بدأت الدعوة لتسوية النزاعات
الدولية بالطرق السلمية وتحكيم القانون الدولي في حل المنازعات الدولية ,وتبلورت في مؤتمر لاهاي الأول لعام 1899م، والذي دعا الدولإلى اللجوء إلى الوسائل السلمية لحل المنازعات الدولية، وأيضا اوجد فكرة إنشاءمحكمة تحكيم دولية دائمة تتولي حسم المنازعات بين الدول بالطرق السليمة، ثم جاءمؤتمر لاهاي الثاني عام 1907م مؤكدا نفس المبادئ، وكان من المفروض أن يعقد مؤتمرثالث في عام 1915م، إلا أن قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م، حال دون عقد هذاالمؤتمر، وبعد انتهاء الحرب وتحديداً في 28 يونيو 1919م عقد مؤتمر السلام فيفرساي، ونتج عنه معاهدة فرساي التي أنشأت عصبة الأمم، والتي كانت تهدف إلى السيطرةعلى النزاعات الدولية قبل استفحالها بفرض حلها وتسويتها بالطرق السليمة، على أملمنع العدوان والحروب في المستقبل، إلا أن ميثاق عصبة الأمم لم يحرم الحرب أواللجوء للقوة في العلاقات الدولية، ولكنه وضع إجراءات معينة لتهدئة الأوضاع إلىمستوىً يمكن تحمله، بالرغم من ذلك، فإن
عصبة الأمم لم توفق في السيطرة على الحرب والنزاعات الدولية، الأمر الذي أدى إلي
اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م، وبعيدا عن الذهاب في العمق
عن الحديث عن الحركة التاريخية لنظرية الحــــــرب العادلــــة jus
ad bellum أو القانون ضد الحرب التي قد تعود إلى عهد الإمبراطورية الرومانية
عندما نشأ مفهوم "الحرب العادلة"، فان نقطة التحول الحقيقية فيما يتعلق
بحظر أو على الأقل فرض قيود على استخدام القوة كانت في عام 1928م، عندما تم توقيع "المعاهدة العامة
لنبذ الحرب" General
Treaty for the Renunciation of War والمعروف أيضاً باسم ميثاق باريس Pact of Paris (the Kellogg-Briand
Pact) ،
والتي أعلن فيها الطرفان المتعاقدان،
وتحديداً في المادة (1) ما يلي: "أنهم يدينون اللجوء إلى الحرب من أجل حل
الخلافات الدولية، وينبذونها كأداة للسياسة الوطنية في علاقاتهم مع بعضها البعض."
بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية، وتحديداً في عام 1945م، أُنشئت هيئة الأمم المتحدة، التي حرمت
اللجوء إلى استخدام القوة أو التلويح باستخدامها في العلاقات الدولية، واحتوى
ميثاقها على واجب حل المنازعات الدولية بالطرق السليمة التي حددها الفصل السادس،
وقد ذهب الميثاق إلى حد فرض عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية على الدول المعتدية
ولكن ضمن شروطٍ معينة، ثم تبلور مبدأ تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية عام
1970م ضمن "إعلان مبادئ القانون الدولي"، والذي تضمن ضرورة اللجوء إلى
الوسائل السلمية لتسوية المنازعات الدولية. وقد ترك ميثاق
هيئة الأمم المتحدة لأطراف النزاع الحرية في اختيار الطريقة الأكثر ملائمة لهم لحل
نزاعاتهم، حيث حددت المادة (33) الفقرة (1) من
ميثاق هيئة الأمم المتحدة الأساليب التي يمكن استخدامها لتسوية النزاعات الدولية،
ولكنها تركت لأطراف النزاع حرية اختيار الأسلوب الذي هو الأنسب والأفضل بالنسبة
لهم، حيث نصت على أنه:
"يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يشكل خطراً على
السلم والأمن الدوليين، أولا وقبل كل شيء، إيجاد حل عن طريق التفاوض والتحقيق
والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، واللجوء إلى المنظمات الإقليمية،
أو غيرها من الوسائل التي يختارونها ".
ومن المهم التأكيد، في هذا السياق، على أن هذه الوسائل السلمية،
ليست مرتبة حسب ورودها في المادة المشار إليها، حسب الأهمية أو الأولوية، حيث أن
لأطراف النزاع الحق في اختيار الطريقة التي يرون أنها أكثر ملائمة للنزاع المراد
تسويته، كما أنه يجب على أطراف النزاع، في حالة فشل وسيلة ما بعينها، مواصلة السعي
للتوصل إلى تسوية عن طريق الوسائل السلمية الأخرى التي يتم الاتفاق عليها، كما
انه، من ناحية أخرى، ليس هناك ما يمنع، أو يمكن أن يحول دون استخدام اثنين أو أكثر
معاً من هذه الوسائل السلمية أو غيرها، بل ربما يكون ذلك مفيداً في كثير من
الحالات.
5. تسوية النزاع الحدودي بين المملكة والكويت والعراق
عن طريق المفاوضات المباشرة
1.5. توقيع برتوكولي العقير الأول والثاني: التحول من الحدود
القبلية إلى الحدود الهندسية
كان الملك عبد العزيز طيب الله ثراه
حريصاً كل الحرص على تسوية الحدود مع جيرانه بالطرق السلمية والتعايش معهم بسلام،
وتعزيز العلاقات الأخوية، وترسيخ مبدأ التضامن والتعاون للحفاظ على أمنه وأمنهم
على حدٍ سواء، ففي نوفمبر 1922م وباقتراح منه ـ رحمه الله ـ اتفق هو والسير
بيرسي كوكس Sir Percy Cox المبعوث السامي البريطاني في الخليج
على الاجتماع في "العقير"،
لتسوية الحدود بين الدولة السعودية من جهة والعراق والكويت من جهة أخرى، والذي نتج عنةً
عقد مؤتمر العقير الذي كان يمثل العراق فيه (صبيح بيه) وزير الاتصالات والعمل،
بينما يمثل الكويت الرائد مور Major J.C. More،
المندوب السياسي البريطاني في الكويت، وكان السير كوكس Cox يقوم بدور الوسيط في هذه المفاوضات، والذي
أعرب عن رغبة الحكومة البريطانية، صديقة الجميع، في التوصل إلى حل سلمي لمسألة
الحدود بين الأطراف الثلاث. والجدير بالذكر
هنا أن السير كوكس Cox
، الذي كان دوره الحقيقي هو التفاوض مع الملك عبد العزيز نيابةً عن العراق
والكويت، أي أن المتفاوضين الرئيسين في هذا المؤتمر كانا الملك عبد العزيز الذي
قاد جولات المفاوضات بكل كفاءة واقتدار، والسير كوكس، وقد تم التوصل في نهاية
المطاف إلى توقيع برتوكولي العقير الأول والثاني، في الثاني من ديسمبر 1922م، حيث عين البروتوكول الأول الحدود
بين الدولة السعودية والعراق بينما عين البرتوكول الثاني الحدود مع الكويت.
ومن وجهة نظر القانون
الدولي فان
المفاوضات، تعتبر عملية "يتم من خلالها طرح مقترحات واضحة، عند تضارب
المصالح، لغرض التوصل إلى اتفاق معين أو تحقيق مصالح مشتركة"، ويمكن أن تكون المفاوضات ثنائية أو متعددة
الأطراف، وفقا لعدد أطراف النزاع، وتجرى
عادة المفاوضات الثنائية المباشرة بين ممثلي الوفود أو من خلال المراسلات الخطية،
وفي حالة المفاوضات المتعددة الأطراف، فإن عقد مؤتمر دولي يمكن أن يوفر الإطار
اللازم لعملية التفاوض، وعلى كل حال، فإن المفاوضات تتم عادة بين الدول من خلال
"القنوات الدبلوماسية الرسمية"، أو عن طريق ممثلين دبلوماسيين من
الإدارات ذات العلاقة في الحكومات المعنية، وكبديل، فإنه إذا تطلب موضوع المفاوضات
ذلك، فإنها تكون بين "السلطات المختصة" لكل طرف من أطراف النزاع، فتكون
المفاوضات، على سبيل المثال بين الإدارات التجارية إذا كانت القضية تدور حول
الأمور التجارية، أو بين وزارات الداخلية إذا كان التفاوض حول الاتفاقات الأمنية،
وهلم جرا، ومن الأمثلة على المفاوضات بين
"السلطات المختصة"، المفاوضات من اجل تسوية النزاعات الحدودية، والتي
تتطلب مفاوضات طويلة ورقابة مستمرة، حيث تقرر الدول إنشاء "لجان مشتركة"
للتعامل مع هذا النوع من النزاعات، وبالنسبة لتدخل
طرف ثالث كوسيط في المفاوضات، فانه يكون للتوفيق بين مطالب الأطراف المتنازعة،
وتقديم مقترحاته الخاصة لأطراف النزاع، وتفسير طلبات المتنازعين، وتمرير
مقترحاتهم إلى بعضهم البعض، من أجل تقريب
وجهات النظر وردم هوة الخلاف بينهم وسد الثغرات للتوصل إلى حل مقبول، صحيح أن للوسيط دوراً
أكثر نشاطاً وفعالية من غيره، حيث يشارك في المفاوضات، ويوجهها التوجيه الصحيح
الذي، قد يؤدي لحل سلمي، كما أن مقترحات الوسيط
ليست ملزمة للطرفين، وإنما يتم تقديمها بصفةٍ غير رسمية، وعلى أساس المعلومات التي
قدمها الأطراف له.
تم بتاريخ
2 ديسمبر 1922م توقيع بروتوكولي العقير
الأولى والثاني، وقد عين البروتوكول الأول الحدود السعودية ـ العراقية، وانشأ منطقة محايدة بين المملكة والعراق على شكل معين، كما حدد بروتوكول العقير الثاني الحدود السعودية
ـــــــــــ الكويتية، وانشأ منطقة محايدة بين المملكة والكويت، وتجدر الإشارة إلى أن الحدود التي حددها بروتوكولي العقير الأولى والثاني
استندت إلى المبادئ الهندسية الثابتة،
بدلا من استنادها إلى العوامل الجغرافية والقبلية، وما من شك فان هذا النمط الجديد
من الحدود الذي يخضع للمعايير الأوروبية لم يكن مناسبا لحياة الصحراء وسكانها في
ذلك الوقت، الذين تعودوا، كما سبقت الإشارة، على التنقل بحرية من مكان إلى آخر
للرعي وكسب العيش، حيث تجاهلت تلك الحدود تماماً التوزيع الجغرافي للسكان، والحياة
القبلية وخصوصيتها.
نتيجة لذلك، فإن هذه الحدود لم تكن مقبولة من قبل سكان تلك
المناطق آنذاك، لأنهم كانوا يعتقدون أنها حرمتهم من حقهم في الرعي والوصول إلى
آبار المياه، هذا الخلل في تحديد الحدود أدى إلى عودة الغارات القبلية إلى الواجهة
مرة أخرى، ديكسون Dickson ، الذي لديه خبرة كبيرة في طبيعة الحياة القبلية، يفضل الحدود
القبلية، كما يراها الملك عبد العزيز رحمه الله، على الحدود الثابتة على النمط
الأوروبي كما يراها كوكس Cox، وينتقد قرار كوكس باعتماد النوع الثاني بقوله:
"كان هناك حل أفضل بكثير من ذلك الذي تقرر في العقير وهو
اعتماد اقتراح ابن سعود تحديد الحدود على أساس حدود القبلية، عندما كنت موظفاً
بالشؤون السياسية.. كان لي تجربة مريرة للحدود التعسفية التركية القديمة بين ليوا،
وقد تخلصنا من القتال بين القبائل فقط عندما استطعتُ إقناع السير بيرسي كوكس Sir Percy Cox ليسمح لي أن اعتمد الحدود
القبلية، وكان من الممكن أن يتبع نفس الطريقة في العقير".
إضافة إلى ديكسون Dickson، فان غلوب Glubbأيضا أيد فكرة الحدود القبلية بدلا من تلك الثابتة، لكنه أقر بأن الحدود
الثابتة لا مفر منها في يومٍ من الأيام، لأنها تحدد السلطة والولاية القضائية
للدول المتجاورة، وعلى كل حال فان هذه النوع من الحدود قد أصبح حقيقة ثابتة في وقت لاحق،
عندما تم تسوية حدود المملكة مع جيرانها،
وبالمقابل فإن فكرة الحدود القبلية أصبحت غير عملية، كما أنه مع مرور الوقت وتغير
الظروف، فقد قبل سكان الأراضي والأقاليم
التي تأسست فيها الدولة السعودية وجيرانها، مبدأ الحدود الثابتة، هذا التغيير في
المواقف تجاه الحدود القبلية والحدود الثابتة أدى إلى التغيير في أسلوب حياة
السكان، الذين أصبحوا مضطرين لقبول العيش داخل أراضي الدولة المحددة بحدود ثابتة
تفصلها عن الدول المجاورة لها، أي القبول بالسيادة الإقليمية territorial sovereignty
.
ومما يقلل، جزئياً، من
عيوب النمط الغربي للحدود الدولية في مجتمع البدو الرحل، هو إنشاء المناطق
المحايدة التي تحتوي على بعض المراعي الجيدة وآبار المياه، والتي تستخدم من جميع
القبائل التابعة للدول الثلاث، وعلاوة على ذلك ، فان المنطقة المحايدة بين
السعودية والكويت، كانت الحل العملي الوحيد للنزاع الحدودي بين البلدين، وذلك
لإمكانية اكتشاف النفط وما كان سينشأ عن ذلك من نزاعات لا مفر منها، يصعب معها
الوصول إلى حلٍ مرضٍ لكلا البلدين، وفي الواقع، فان هذه المناطق المحايدة، والتي تهدف أيضا إلى منع وقوع اشتباكات بين
القبائل، قد كانت في غاية الأهمية لتسوية الحدود السعودية مع كلاً من العراق
والكويت، لدرجة أن بعض الكتاب قد رأى بأنه من دون هذه المناطق المحايدة، فانه لم
يكن بالإمكان أبداً تسوية الحدود السعودية مع كلٍ من العراق والكويت.
6. المفاوضات المباشرة بين المملكة وبريطانيا في مؤتمر الكويت
الثاني (1923ـــــــ1924)
على الرغم من أن بروتوكول العقير الأول عين الحدود بين المملكة
والعراق، فقد استمرت المشاكل وتواصلت الغارات بين هذه القبائل على الحدود بسبب طبيعة
حياة السكان، لأنها لم تعترف بعد بحدود ثابتة تفصلهم عن بعضهم البعض، وتحد من
تحركاتهم وتنقلاتهم. علاوة على ذلك، فان الخلاف السعودي ـ الأردني بشأن السيادة
على وادي سرحان، والغارات والغارات المضادة التي تقع من وقت لآخر هنا وهناك، أدي
بالحكومة البريطانية إلى التفكير في تنظيم مؤتمر الكويت في عام 1923م، اختارت بريطانيا الكولونيل نوكس Colonel Knox، المقيم السياسي البريطاني
في الخليج، لرئاسة المؤتمر، والذي كان الهدف منه تسوية النزاعات الحدودية بين
المملكة العربية السعودية من جهة والأردن والحجاز من جهة أخرى، وكذلك، و بقدر ما
يمكن، مناقشة القضايا العالقة بين المملكة والعراق.
كان الملك عبد العزيز طيب الله ثراه على استعداد لتسوية جميع
المشاكل المعلقة بينه وبين جيرانه بالطرق الودية، فعندما أرسل له نوكس Knox، رسالةً يقترح فيها
الاجتماع به رحمه الله، لمناقشة مسألة الحدود بين الدولة السعودية من جهة والأردن
والحجاز (كان ذلك قبل ضم الحجاز للمملكة) من جهةٍ أخرى، وهو ما عرف لاحقاً بمؤتمر الكويت، أجابه الملك عبد العزيز برسالة قال فيها:
"لا شيء
يجعلني أكثر سعادةً من أن أكون على وفاق تام وعلاقات أخوية مع جيراني، ولذلك فأنني
أوافق بسعادة بالغة، على حضور المؤتمر الذي يعقد في الكويت أو البحرين".
وقد عُقد مؤتمر الكويت في 17 ديسمبر 1923م، وقد كانت سياسة بريطانيا تجاه
المؤتمر، والتي كان على المؤتمر التقيد بها، انه كان على الأمير عبد الله ملك
الأردن أن يتخلى عن القريات مقابل حصوله على العقبة، وأن ينسحب الملك عبد العزيز
من الخرمة وتربه في مقابل القريات، وأن الملك حسين سيتخلى عن جميع ادعاءاته في
المنطقة الواقعة إلى الشمال من المدورة.
7. مفاوضات بحرة وحداء بين المملكة وبريطانيا عام 1925م
بعد ضم الملك عبد العزيز للحجاز وتحديداً عام 1925م أرسل رسائل إلى حكومات:
مصر، العراق، إيران، تركيا وأفغانستان يقول فيها "لا
ارغب أن انصب نفسي حاكماً على الحجاز أو أن أسيطر عليه،
فالحجاز أمانة في يدي حتى يأتي الوقت الذي يختار فيه الحجازيون حاكماً منهم، يعتبر
نفسه خادماً للعالم الإسلامي، ويعمل تحت إشراف المسلمين جميعاً"، وهذا يتفق تماماً من حق تقرير المصير للشعوب الذي نصت عليه لا حقاً الاتفاقيات
الدولية الخاصة بحقوق الإنسان لعام 1966م، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية
والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية، ونتيجة لذلك، اجتمع أعيان الحجاز وقرروا مصيرهم بأنفسهم ومنحوا الملك عبد العزيز
لقب ملك الحجاز، ليصبح عام 1926م، ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، وبعد ثلاثة أشهر فقط، حصل الملك عبد
العزيز إلى ما يسمى في القانون الدولي بالاعتراف الشرعي (de jure) من كلٍ من بريطانيا، فرنسا، الاتحاد
السوفيتي وهولندا.
في
نفس السنة دعا الملك عبد العزيز الدول الإسلامية إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة
المكرمة،
هذا المؤتمر الذي افتتح أعماله في
7يونيو1926م، وحضره ستون ممثلا من
دول العالم الإسلامي كان إشارة واضحة ـ حسب قواعد القانون الدولي ـ إلى أن حكم الملك عبد العزيز أصبح أمرا واقعاً
لا جدال فيه (fait accompli)،
وبالتالي حصل على الاعتراف التدريجي من قبل جميع القوى الإسلامية الأخرى.
هذا الاعتراف
الواسع بالملك عبد العزيز رحمه الله وبدولته الفتية لم يؤثر على موقفه الايجابي
والداعم للحل والتسوية السلمية للحدود بينه وبين
جيرانه بالطرق الودية، نجد الدليل على ذلك في مواقفه السلمية تجاه
جيرانه، والذي أعرب عنه في العديد من المناسبات، فعلى سبيل المثال، عندما علم من قبل
البريطانيين عن خط الحدود بين الحجاز والأردن، فيما يتعلق بمدينتي معان والعقبة،
قبل التفاوض مع بريطانيا "في أي وقت وفي أي مكان يكون مناسباُ لهم"، ونتيجة لذلك تم اختيار السيد جيلبرت كلايتن Sir Gilbert Clayton للتفاوض مع الملك عبد العزيز حول النزاع الحدودي
السعودي ـــ الأردني ومشكلة اللاجئين بين العراق والسعودية، ويلاحظ هنا أن النزاع
حول مدينتي معان والعقبة، والذي كان يعرف بالنزاع الحدودي بين الحجاز والأردن، لم يكن
مدرجاً على جدول أعمال مفاوضات بحرة وحداء، وذلك بسبب الوضع غير المستقر في
الحجاز، وقد بدأت المفاوضات بين الملك عبد العزيز طيب الله ثراه والسير جيلبرت
كلايتن Sir Gilbert Clayton في مخيم خاص أنشأه الملك عبد العزيز في موقع وسط
بين "حداء" و "بحرة"، ويلاحظ أن
الرغبة والعزيمة لكلا الطرفين لتسوية نزاعهما الحدودي، فضلا عن التفاهم والمرونة
التي سادت المفاوضات، أسفرت عن التوصل إلى توقيع اتفاقية حداء بتاريخ 2 نوفمبر عام 1925م، من جانب الملك عبد العزيز
رحمه الله والسير جلبرت كلايتون Sir Gilbert Clayton , لتسوية الحدود
السعودية الأردنية، هذا الاتفاق تم التوصل إليه بعد عشرين دورة من المفاوضات جرت
في أقل من شهر واحد، وعلى الرغم من أن بريطانيا لم تتمكن من تعيين
الحدود بين الحجاز والأردن، بسبب النزاع في الحجاز، فان حيازة معان والعقبة، من
قبل الأردن، كان أمراً محكوماً فيه آنذاك “chose
jugée”. كما وقع الملك عبد العزيز والسير كلايتون Clayton
قبل ذلك وتحديداً في الأول من أكتوبر 1925م "اتفاقية بحرة"، التي لم تكن لتسوية الحدود، وإنما كانت للاتفاق على مواضيع أخرى بين الدولة
السعودية والعراق مثل تسليم المجرمين و تحركات القبائل على الحدود ووضع حد للغزو
وتنظيم الرعي وغير ذلك.
8. توقيع
معاهدة الصداقة الإسلامية والأخوة العربية بين المملكة العربية السعودية والمملكة
اليمانية "معاهدة الطائف" لعام
1934م
فيما يتعلق
بالحدود مع اليمن فقد حرص الملك المؤسس عبد العزيز ـــــــ كما هي عادته ـــــــــ
على الوصول إلى اتفاق حول الحدود يرضي كلا الطرفين، وقد أسفرت المفاوضات التي كانت طويلة
وشاقة عن توقيع
معاهدة الحدود بين البلدين والتي أطلق عليها "معاهدة صداقة إسلامية وأخوة
عربية، بين المملكة العربية السعودية وبين المملكة اليمانية"،ويطلق عيها أيضا اسم
"معاهدة الطائف"، والتي تم توقيعها
بتاريخ 20 مايو 1934م.
وقد
نصت المادة (4) من المعاهدة على أن خط الحدود يبدأ من " رصيف البحر تماما رأس
المعوج شامي لمنفذ رديف قراد" على ساحل البحر الأحمر بين ميدي اليمني والموسم
السعودي ويستمر خط الحدود باتجاه الشرق إلى أن يصل إلى جبل ثار، ولم تحدد المعاهدة
المنطقة من جبل ثار باتجاه الجنوب الشرقي إلى جبل الريان على مشارف الربع الخالي
وإنما تم الاكتفاء بتحديد مواقع القبائل بين البلدين، وتجدر الإشارة إلى أن معاهدة
الطائف كانت أكثر من مجرد معاهدة حدود per
se .
1.8. التحكيم الدولي في معاهدة
الطائف
عند توقيع
معاهدة الطائف، تم التوقيع على عهد التحكيم بين المملكة العربية السعودية وبين
مملكة اليمن، واعتُبر جزءاً متمماً لها، حيث اتفق الطرفان فيه على أن يحيلا إلى التحكيم المواضيع التي تعجز سائر الوسائل
الودية عن حلها، وقد تضمن عهد التحكيم بأن يقبل الطرفان بإحالة القضية المتنازع فيها إلى التحكيم
خلال شهر واحد من تاريخ استلام طلب إجراء التحكيم من الفريق الآخر، وان يتم تشكيل هيئة التحكيم من عدد متساوٍ من المحكمين، ينتخب كل فريق نصفهم ومن
حكم وازع ينتخب باتفاق الطرفين، وإن لم يتفقا على ذلك يرشح كل منهما شخصاً، فإن
قبل أحد الطرفين المرشح الذي قدمه الطرف الآخر فيصبح وازعاً، وإن لم يتم الاتفاق
على ذلك، تجرى القرعة على أيهما يكون وازعاً، والذي تقع عليه القرعة يصبح رئيساً
لهيئة التحكيم، ووازعاً للفصل في القضية، وإن لم يحصل الاتفاق على الأشخاص
المقبولين من الطرفين تجرى المراجعات فيما بعد إلى أن يحصل الاتفاق على ذلك
يصنف التحكيم الدولي على أنه أحد الوسائل القانونية أو القضائية لحل
المنازعات الدولية، والتي يعتبر أيضا الملاذ الأخير
لأطراف النزاع، عندما لا يتم التوصل إلى تسوية للنزاع عن طريق الطرق والوسائل
الدبلوماسية الأخرى. وعلى الرغم من أن هيئة التحكيم هي من اختيار إطراف النزاع،
فانه إذا تم اللجوء إلى التحكيم الدولي، فان القضية، لا تكون في أيدي إطراف
النزاع، كما هو الحال في الوسائل الدبلوماسية، بل تصبح في أيدي هيئة التحكيم، التي
تصدر حكماً ملزماً، يجب على أطراف النزاع تنفيذه. ومن مزايا التحكيم الدولي هو أنه
يوفر لأطراف النزاع فرصة مناسبة للحصول على قرار قضائي من القاضي أو القضاة الذين
يختارونهم بأنفسهم، وهذا في غاية الأهمية، لأن الحكومات تشعر عادةً بالثقة في
هؤلاء القضاة أو المحكمين الذين أصدروا القرارات، وبالتالي فان تنفيذ تلك القرارات
يكون ممكناً إلى درجة كبيرة، وتجدر الإشارة إلى انه يجب مراعاة عنصرين في عملية
التحكيم، وهما: ضرورة موافقة الطرفين على التحكيم في كل مرحلة من مراحل التحكيم،
وكذلك تسوية النزاع "على أساس احترام القانون"،كما أن التحكيم
الدولي الذي برز بوصفه احد الإجراءات التي تحتوي على طرف ثالث في معظم الأحيان،
يكون خياراً لتسوية النزاعات المتعلقة بالأراضي والحدود، والنزاعات المتعلقة
بتفسير المعاهدات الثنائية أو المتعددة الأطراف، وتلك المتعلقة بالمطالبات الناتجة
عن انتهاك القانون الدولي.
يعتبر توقيع عهد التحكيم بين المملكة العربية السعودية ومملكة
اليمن عام 1934م، في حد ذاته إنجازاً كبيراً، لاسيما في ذلك الوقت المبكر، ويتفق
مع المبادئ العامة والوسائل والطرق التي على الدول اللجوء إليها، والتي أقرتها
الاتفاقيات الدولية بشأن تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية كما تمت الإشارة
أعلاه، وبذلك تكون الدولتان قد ساهمتا مساهمةً فعالة في تطور القانون الدولي في
هذا المجال، حيث تسوية النزاعات المحتملة والمستقبلية عن طريق التحكيم الدولي، من
اجل المشاركة في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة
لحل النزاعات الدولية.
الخلاصة
كان واضحاً أن
مهمة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه كانت صعبة للغاية، لأن
تحديد الحدود الدولية يعني أنه سيتم فرض حدود معينة خاصة بكل دول تحد من ولايتها
واختصاصاتها القانونية والقضائية، كما أنه من الناحية العملية، فانه قد يتم نقل
قطعة من الأرض من دولة إلى أخرى، نتيجة لتعيين وتحديد الحدود الدولية، وما سيترتب
على ذلك من نتائج بعيدة المدى، ولكن الحاجة كانت ملحة لتسوية الحدود مع الدول
المجاورة، في الشمال الكويت، العراق والمملكة الأردنية الهاشمية، وفي الجنوب
الجمهورية اليمنية، وذلك بهدف تحقيق الاستقرار والتوصل إلى تسوية للنزاعات
الحدودية، وقد أثبتت الدراسات والمناقشات أن نجاح أطراف النزاع في تسوية خلافاتها
الحدودية يختلف من حالة إلى أخرى، حيث تعتمد كثيراً على عدة عناصر وعوامل، والتي
تشكل برمتها عملية التسوية والتي، بدورها، تساعد الأطراف على إيجاد حل مقبول
للنزاع القائم بينهم، جميع النزاعات التي تمت مناقشتها وتسويتها كانت تلعب
المفاوضات فيها دوراً مهماً وحيوياً، إلا أنه كان من الواضح أنها كوسيلة لتسوية
النزاعات الدولية عموماً والحدودية خصوصاً، كانت تخضع لبعض القيود، حيث بينت
الأدلة أن المفاوضات بين الأطراف في النزاعات الحدودية حققت على أوسع نطاق فرصة
للتوصل إلى تسوية فعالة لجميع أشكال النزاعات الحدودية.
رأينا كيف أن
المفاوضات المتعددة الأطراف تمت من خلال عقد مؤتمرات يشترك فيها أطراف النزاع،
مؤتمر العقير ومؤتمر الكويت، هذه المؤتمرات وفرت إطاراً مناسباً لعملية التفاوض،
وكانت ناجحة للتسوية الحدودية، إلا أن تسوية الحدود على الطراز الغربي أدى إلى
احتكاك بين السعودية والعراق وتسببت في الغارات والغارات المضادة بين القبائل في
كلا البلدان، نظرا لطبيعة حياة السكان في ذلك الوقت، وقد تم معالجة أوجه القصور في
تلك التسوية عن طريق المناطق المحايدة بين المملكة والكويت، وبين المملكة والعراق،
والتي كانت الحل العملي الوحيد للنزاعات الحدودية في تلك المناطق، لتجنب نشوء أي
نزاعات محتملة بين تلك الدول لاحتمال اكتشاف النفط، ولتجنب وقوع اشتباكات بين
القبائل، حيث لم يكن من الممكن من دون هذه المناطق المحايدة، تسوية النزاعات
الحدودية، ومن العلامات الفارقة والنتائج المتميزة في تاريخ الحدود الدولية في
المنطقة، أن مؤتمر العقير أسفر عن قبول مبدأ ترسيم الحدود بين الدول العربية، حيث يمكن
القول أن توقيع الملك عبد العزيز لبروتوكولي "العقير الأول والثاني" وكذلك
توقيعه لاتفاقيتي "بحره وحداء"، التي تم بموجبها تعيين الحدود بين
المملكة العربية السعودية وجيرانها في الشمال، وكذلك توقيعه لمعاهدة الطائف لتسوية
الحدود مع اليمن، قد ساهم مساهمةً فعالة
في تطور العلاقات بين المملكة من جهة وتلك الدول من جهة أخرى، فما حدث يعتبر نقطة
تحول جوهرية في العلاقات العربية- العربية، كما أدى ذلك إلى ترسيخ مبادئ القانون
الدولي مثل مبدأ تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، ومبدأ "السيادة
الإقليمية"، ضمن حدودٍ معينة تتفق مع قواعد القانون الدولي، وكذلك الاحترام
المتبادل للاستقلال السياسي ووحدة الأرض وعدم التدخل في الشئون الداخلية والخارجية
لكل دولة، إضافة إلى قبول مبدأ ترسيم الحدود على النحو المعروف في القانون الدولي،
حيث كانت هذه هي
المرة الأولى في تاريخ المنطقة التي يتم فيها الاعتراف بالحدود السياسية الدولية، كما هي معروفة
في القانون الدولي، يتم رسمها على خرائط، وترسيمها على الأرض في شبه الجزيرة العربية.
عندما كان
أطراف النزاع مستعدون وعازمون على تسوية نزاعاتهم الحدودية، كما كان عليه الحال في مفاوضات
"حداء" و "بحرة"، أدى التفاهم المتبادل والمرونة، التي سادت
خلال المفاوضات، إلى تسوية النزاع الحدودي بين السعودية والأردن، وقد كان كل طرف على استعداد لتقديم تنازلات والتوصل في
النهاية إلى تسوية مرضية، وغني عن القول أن بعض المفاوضات التي نجحت في تسوية
النزاعات الحدودية للمملكة مع الدول المجاورة جرت في أجواء ودية، عندما كانت
العلاقات في أحسن حالاتها.
بالنسبة
للقانون الدولي، فإنه يعتبر أن استقرار الحدود الدولية جزء لا يتجزأ من استقرار
الأمن والسلم الدوليين، وهنا تكمن أهمية التعيين الدقيق للحدود بين الدول، من أجل
عدم ترك أي احتمالات لأي نزاعات حدودية مستقبلية قد تؤدي إلى تهديد الأمن والسلم الدوليين
وتعريضهما للخطر، كما أن احترام القواعد والمبادئ العامة للقانون الدولي من قبل
المملكة وتلك الدول كان حجر الزاوية في تسوية نزاعاتهم الحدودية، وفي توصلهم إلى
اتفاقيات حدودية، ففي مفاوضات مؤتمر العقير، وهنا نعيد إلى الأذهان موقف الملك عبد
العزيز ـ طيب الله ثراه ـ عن استعداده لتسوية جميع المشاكل العالقة بينه وبين
جيرانه بالوسائل الودية، كما أنه رد على دعوة نوكسKnox
، له لحضور مؤتمر الكويت، بقوله أنه لا شيء
يجعلني أكثر سعادة من أن أكون على أتفاق وعلى علاقة ودية مع جيراني، وعندما تم
إبلاغه ـ رحمه الله ـ من قبل البريطانيين رغبتهم في مناقشة مسألة الحدود بين
المملكة والأردن، أكد أنه يمكن التفاوض مع بريطانيا في أي وقت وأي مكان، كما يتضح
أن المملكة كانت على علم ووعي تامين بأهمية اللجوء إلى القانون الدولي، عند نشوب
أي نزاع، فقامت بتوقيع عهد التحكيم الملحق باتفاقية الطائف، المتضمن إحالة أي
نزاعات على الحدود بين المملكة واليمن التحكيم الدولي، إذا لم يتم تسويتها
بالوسائل السلمية الأخرى، في دليلٍ آخر على التزام المملكة بمبادئ القانون الدولي
ورغبتها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين عن طريق تسوية أية نزاعات قد تظهر في
المستقبل بالطرق السلمية.
وحيث أن مبادئ
وقواعد القانون الدولي قد تبلورت وأصبحت أكثر وضوحاً في جوانب معينة تتعلق
بالسيادة الإقليمية للدول، والأقاليم والأرضي المحددة داخل حدود معينة تفصل كل
دولة عن الأخرى، فقد قام الملك عبد العزيز
ـ طيب الله ثراه ـ بتطبيق بعض المسائل
التي تعكس هذه المبادئ، فبدءا من مؤتمر العقير عام 1922م، وحتى إعلان تأسست
المملكة عام 1932م، كان يرفض قبول فكرة أقاليم محددة وحدود ثابتة، ويفضل بدلاً من
ذلك، الأقاليم المبنية على التوزيع السكاني، التي ترتكز على الولاء القبلي، ثم عدل
موقفه في أوائل الثلاثينيات الميلادية، ليتفق مع مبادئ القانون الدولي ذات الصلة،
وسعى إلى تحديد الحدود لتكون متفقةً مع الحدود السياسية الحديثة، أي مثل تلك التي
تطبقها الدول الغربية، كما أنه ا ساهم في تطور القانون الدولي، من خلال مواقفه
وسياساته أثناء عملية تسوية النزاعات الحدودية، حيث قام بدورٍ ملحوظ لترسيخ ودعم نظرية التعايش السلمي
مع الدول المجاورة.
علاوة على
ذلك، فإنه ـ طيب الله ثراه ـ من خلال
الاتفاقات الحدودية التي أبرمها مع الدول المجاورة، أنشأ عدداً من السوابق
القانونية، فبروتوكولي العقير الأولى والثاني اللذين انشئا منطقتين محايدتين بين
المملكة والكويت وبين المملكة والعراق، على أن تبقى منطقة غير مأهولة بالسكان، وأن
القبائل التي تعيش على الحدود بين البلدين سيكون لها الوصول إلى المراعي والمياه
في تلك المناطق، وأن يتم استغلال النفط استغلالا مشتركاً، ويحصل كل جانب على نصف
الإنتاج، وقد حققت هذه المناطق المحايدة، التي تم إنشاؤها لأول مرة في شبه الجزيرة
العربية، نجاحاً كبيراً في تسوية النزاعات الحدودية بين المملكة والكويت وبين
المملكة والعراق، وقد تم ـ في وقت لاحق ـ
تأييد هذا السابقة من قبل القانون التقليدي، والممارسات الدولية على حد
سواء، حيث قامت العديد من دول الخليج بإنشاء مناطق محايدة كجزء من تسوية النزاعات
الحدودية.
تعليقات
إرسال تعليق