لو افترضنا جدلاً ومن أجل مناقشة هذا الموضوع من
الناحية القانونية، أن دولة A مارست ضغوطاً من أجل أن توقع دولة B على اتفاقية ما، مقابل
الاعتراف بها، وأن الدولة B وقعت الاتفاقية، ولكنها دفعت بأن الاتفاقية باطلة لأنها وقعتها
مكرهة، فان الأمر يتطلب مناقشة حجة الإكراه duress أوcoercion، في
القانون الدولي، لنرى هل ينطبق على هاتين الدولتين أم لا.
من وجهة نظر القانون الدولي، فإنه يشترط لصحة الاتفاقية أن
تكون خالية من عيوب الرضا، وهي الغلط والتدليس والغبن والإكراه، وإذا علمنا أنه
ليس من الصعب الدفع بهذه العيوب لإبطال العقود بين الأفراد، إلا أن ذلك يعتبر في غاية الصعوبة على
المستوى الدولي من خلال الاتفاقيات الدولية، لأن هذه الاتفاقيات تمر بسلسلة طويلة من المفاوضات والنقاش، وتعرض
على
مستويات عديدة
ومهمة في الحكومات والبرلمانات في الدول المعنية على اختلاف مسمياتها وأنواعها، وبالتالي
فإنه يفترض الانتباه لعيوب الرضا وتجاوزها، لذلك، فان القانون الدولي تنبه لهذه المسألة وتعامل مع عيوب الرضا
في الاتفاقيات الدولية بشيء من الاهتمام والحذر بهدف صيانة الاتفاقيات الدولية،
وضمان استمرارها، وعدم الاحتجاج بعيوب الرضا من أجل إبطال الاتفاقية. فعلى سبيل
المثال فإن القانون الدولي اشترط للدفع بالغلط الجوهري ألا تكون الدولة صاحبة
الدفع قد أسهمت بسلوكها في وجود حالة الغلط، أو إذا كان يمكنها تدارك هذا الغلط
بعد وقوعه، أما عيب التدليس، والذي يعني استخدام الخداع لحمل الطرف الآخر على
التعاقد عن طريق تقديم مستندات ووثائق ومعلومات غير صحيحة، فان المادة (49) من
اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969م، أعطت الحق للدول بإبطال الاتفاقيات والدفع بالتدليس كغش
وقعت فيه، كما نظمت الاتفاقية، في المادة (50) (حالة جديدة)، وهي إفساد ممثل الدولة المتفاوض بدفع رشوة
إليه، أو إعطائه امتيازات لإقناع دولته لعقد الاتفاقية، أما أعمال المجاملات وواجبات الضيافة فلا تدخل في مفهوم
الإفساد، وأخيراً وليس آخرا، فبالنسبة للإكراه، وهو ما نحن بصدده الآن، فقد نصت اتفاقية فيينا لقانون
المعاهدات على نوعين من الإكراه، هما الإكراه الواقع على ممثل الدولة،[1] والإكراه
الواقع على الدولة ذاتها،[2] فالإكراه الواقع على ممثل الدولة، هو الإكراه الممارس على إرادة الشخص الطبيعي الممثل للدولة سواء أكان مفاوضاً
أو موقعاً أو مصادقاً على المعاهدة، فقد يتخذ هذا الإكراه صورة إكراه مادي كحبس أو اعتقال هذا الممثل أو تعذيبه أو
ممارسة ضغوط جسدية أخرى علية ، كما يمكن أن يكون إكراه معنوي عن طريقة تهديده بكشف فضائح أو
أسرار قد تهدد مستقبل ممثل الدولة السياسي أو الدبلوماسي وحتى الاجتماعي كتهـديده بكتشف فضائح مالية أو لا أخلاقية وما إلى ذلك، أما الإكراه الواقع على
الدولة، فينقسم فيه فقهاء القانون الدولي إلى قسمين، القسم الأول،
يرى عدم الأخذ به للبطلان كونه يؤدي إلى عدم الاستقرار في التعامل الدولي بسبب يمكن التذرع به
من قبل الدول للإخلال بالتزاماتها بموجب المعاهدات والاتفاقيات، خاصة ، في وقت يرى
هؤلاء
الفقهاء
انعدام أو ضعف التهديدات الدولية خاصة مع وجود مجلس الأمن الدولي وميثاق هيئة الأمم
المتحدة الذي يمنع التهديدات الدولية ،والقسم الآخر من فقهاء القانون الدولي يرون العكس.
وتأسيساً على ما تقدم، فان الدولة A إذا لم تستخدم القوة أو تهدد باستخدامها بأي شكل
من الأشكال ضد الدولة B، فتعتبر الضغوط – إن وجدت - ضغوطاً سياسية، وما من شك في أن الضغوط السياسية والاقتصادية وغيرها من الضغوط لا ترقى إلى
مستوى الإكراه الذي يبطل الاتفاقية، حيث أن الإكراه المعتبر في القانون الدولي هو ما يتم عند طريق استخدام القوة أو
التهديد باستخدامها، حيث نصت المادة (52) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات،
على أن المعاهدة تعتبر باطلة إذا أبرمت تحت التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالمخالفة للمبادئ الواردة
في ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وهذا يعد تطوراً طبيعياً بعد الاتجاه إلى تحريم استخدام
القوة في العلاقات الدولية ابتداء من توقيع "المعاهدة العامة لنبذ الحرب" عام
1928م،[3] General Treaty for the
Renunciation of War والمعروف أيضاً باسم ميثاق باريس Pact of Paris (the
Kellogg-Briand Pact) وانتهاء بالمادة (2) الفقرة (4) من ميثاق الأمم المتحدة وما تلا
ذلك من قرارات وإعلانات صادرة عن المنظمة وغيرها من المنظمات الدولية. كما انه في قضية مصائد
الأسماك الأيسلندي (قضية الاختصاص) Icelandic fisheries jurisdiction case، أشارت محكمة العدل الدولية إلى المادة (52)
من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، عندما قررت "أنه وفقاً للقانون الدولي
المعاصر فان الاتفاقية التي أبرمت تحت استخدام القوة أو التهديد باستخدامها
باطلة".[4]
كما أن الاعتراف بالدولة
وعدم الاعتراف بها، مع أهميته في القانون الدولي، إلا أنه ليس مهما لدرجة التفريط
في حقوق الدولة مقابل الحصول على الاعتراف، ومن المعروف على نطاق واسع، أن من شروط
الدفع بالإكراه لبطلان الاتفاقية – بشكل عام – أنه يجب
أن يكون الضرر الذي سينتج عن التهديد في حالة عدم الاستجابة أكبر من الضرر الناجم
عن الفعل في حالة الاستجابة للتهديد، وهذا يعني أنه فيما يتعلق بمسألة الدولة A والدولة B ، فإنه يجب أن يكون تأثير عدم
الاعتراف بالدولة B من قبل الدولة A اكبر من تأثير فقدان الدولة B لحقوقها، وهذا الشرط غير
متحقق مطلقاً، حيث أن عدم الاعتراف ليس اكبر من فقد الدولة أياً كانت لجزء تعتبره
مهماً من حقوقها ، والدليل على ذلك يتضح من خلال استعراض مفهوم الاعتراف بالدولة
في القانون الدولي وأهميته في العلاقات الدولية، وآثاره على الدولة باعتبارها
شخصاً قانونياُ اعتبارياً في المجتمع الدولي. وفي
هذا الصدد، نجد، كما مر معنا من قبل،[5] أن النظرية
المعلنة أو المقررة declaratory theory المتعلقة بالاعتراف
بالدولة الجديدة، وهي الأقرب إلى الواقع والى الممارسات الدولية في هذا الشأن،
تقضي بأنه إذا وجدت الدولة بعناصرها المعروفة، وهي السكان الدائمون والأرض أو
الإقليم الذي يقيم عليه أولئك السكان، والسلطة أو الحكومة التي تمارس سيادتها
وسلطاتها القانونية على أرضها والمقيمين عليها، وقدرة تلك الدولة على الاتصال
بالمجتمع الدولي وإقامة علاقات دولية، فإنها تصبح شخصا قانونيا دون الحاجة إلى
الاعتراف بها من قبل الدول الأخرى، وان تم الاعتراف فهو إقرار بالواقع، لان وجود
الدولة بعناصرها أهم من الاعتراف بها، فهي بهذا الوجود وطبقا لهذه النظرية، تصبح
عضوا في المجتمع الدولي لها كامل الحقوق وعليها كامل الالتزامات الدولية وهذا في
غاية الأهمية.
ولذلك،
فليس هناك ما يبرر الاستجابة للضغوط –إذا كان ادعاء الدولة B صحيحاً -والتنازل عن حقوقها مقابل الاعتراف بها من قبل الدولة A،
سيما وأن الدولة A ليست الدولة الوحيدة، فهناك دولٌ اخرى
ستعترف بالدولة B، وبذلك يصبح اعتراف الدولة A
اقل أهمية، وهذا يضعف ادعاء وحجة الدولة B، التي لن تصمد
طويلاً أمام القانون الدولي، لو أن القضية أحيلت إلى التحكيم الدولي أو إلى محكمة
العدل الدولية.
[3]
انظر: “The Paris General Treaty for the Renunciation of War” , United
Kingdom Treaty Series, 29 (1929) Cmd 3410.
تعليقات
إرسال تعليق